الذين شاهدوا مسلسل الحجاج بن يوسف الثقفي في عرضه الأول، أو يشاهدونه الآن في عرضه الثاني تتبادر إلى أذهانهم أسئلة كبيرة:
* ماذا أراد كاتب العمل جمال أبو حمدان ومخرجه محمد عزيزية أن يقولا، حين غادرا الراهن نحو حقبة تاريخية مغرقة بالحساسيات والالتباسات والصراعات الدموية المرعبة بين المسلمين..
* هل كان الحجاج بطاشاً ظالماً ويعكس واحدة من صور القمع العربي عبر العصور، فجاء المسلسل صرخة ضد القمع والظلم، أم كان ظلمه وقسوته، وكما يشير المسلسل أيضاً، ضرورة لا غنى عنها لحماية الحكم العربي الأموي المهدد بالطامعين، وهم كثر، وخاصة الفرس؟
* هل كان الحجاج كما وصفه خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز بقوله «لو جاءت كل أمة بخطاياها يوم القيامة، وجئنا نحن بالحجاج وحده لرجحناها جميعا'
* أم أن الحجاج هو كما وصفه المؤرخ ابن كثير بالقول: «إن أعظم ما نُقِم على الحجاج وصح من أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله، وقد كان حريصا على الجهاد وفتح البلاد، وكانت فيه سماحة إعطاء المال لأهل القرآن؛ فكان يعطي على القرآن كثيرا، ولما مات لم يترك فيما قيل إلا 300 درهم». أي أن طاغية بني أمية هو رجل دولتهم القوي الذي لولاه لما استتب لهم أمر ولا أمن لهم موضع ولا علا لهم شأن.
- أم أن الحجاج هو خليط من هذا وذاك؟
يقول مخرج العمل محمد عزيزية «إن الحجاج وصف بأنه طاغية العرب وبأنه السيف المسلط على مناوئي الدولة المركزية، بالمقابل فهو رجل الدولة الداهية ورجل المهمات الصعبة وجل الاقدار ومسير الفتوح الى اقاصي الارض ومعزز اركان الدولة ومصلح بنيانها وموحدها بين شدته وقسوته الجامحة وبين لينه وولائه للخلافة فكان رجل الدولة الذي ظهر في حقبة عاصفة من التاريخ».
إن سيرة الحجاج كما يؤشر المسلسل تطرح القضية المركزية المتصلة بالحكم منذ كان وهي: هل العدل فوق الملك أم الملك فوق العدل؟
الخليفة العادل ابن عبد العزيز كان من القلة الذي انحاز إلى الخيار الأول أما أرباب الحكم عموماً فقد ظلوا على الدوام مع الشق الثاني، والأمر هنا ليس مجرد أطماع سلطان أو حاكم بل قد يتصل الأمر بمصالح أمة، كما بالنسبة لبني أمية، أو مصالح قوى اجتماعية أو طبقية، كما هو الحال دائما.
وفي كل الأحوال فإن مسلسل الحجّاج عمل ملحمي تاريخي يتناول العقد الثامن من التاريخ الهجري، خلال الفترة التي كانت فيها الدولة الأموية في الشام تتأهب لانطلاقة جديدة، مع بروز المؤسس الفعلي الثاني لها وهو عبد الملك بن مروان الذي تمكن من السيطرة على الوضع، مستعيناً بالحجاج، ولكن بعد سلسلة الحروب والثورات والآلام بدءا من ثورة الإمام الحسين رضي الله عليه، واستشهاده وأهل بيته في كربلاء، مرورا بثورة التوابين والمختار الثقفي في الكوفة، وثورات الخوارج المستمرة، في البصرة و الأهواز و أقاليم بلاد فارس، ثم ثورة عبد الله بن الزبير واعتصامه بمكة.. حيث تعرضت الكعبة لأقسى هجمة في تاريخها حينما قصفت بالمنجنيق. وحيث قتل، في هذه المجابهات الدامية، الحسين بن علي، وصلب عبد الله بن الزبير، وفتك بقادة المعارضة الآخرين.
إن كاتب العمل كما مخرجه لا يستطيع، مهما بلغت دقته الموضوعية أن يكون محايداً تماماً، وهو يقرأ الحجاج.. ذلك أن قطاعات شعبية هائلة لا تزال حتى اليوم تلطم على ضحايا الحجاج بالأمس، في كربلاء والكعبة الشهيد والشاهد على دم ابن الزبير وعذابات أسماء فتدمع العيون بحزن القلب و قهره.. وبالتالي لا يرى الحجاج إلا طاغية بشعاً لا يستحق سوى اللعنة وعذاب الآخرة.. فكيف يمكن والحال كذلك أن يقرأ الرجل أو يشاهد بصورة موضوعية؟!
ورغم ذلك كله فهذا المسلسل يشكل علامة فارقة على خريطة الدراما الأردنية، والدراما التاريخية العربية، ومن هنا لم يكن غريبا أن ينال هذا المسلسل من مهرجان القاهرة للبرامج التلفزيونية والاذاعية ثلاث جوائز: الاولى جائزة الابداع الذهبية للدراما مع شهادة تقدير، وجائزة مالية مقدارها ثمانية جنيهات ذهبية، وحصل عليها الفنان عابد فهد، في فئة احسن تمثيل دور اول، كما فاز الحجاج بجائزة احسن تصوير واضاءة لمحمد حبيب،.. اضافة الى فوز المسلسل بالجائزة البرونزية للفيلم التاريخي.
يذكر هنا أن كاتب العمل ومخرجه، قد قدما معا الطريق الى كابول، في رمضان الماضي، والذي أثار موضوع منع استمرار عرضه ضجة كبرى.
ولا بد من التنويه هنا بالحضور المتميز لمجمل التقنيات والكادر الفني الأساسي الاردني، رغم أنه المسلسل قد جمع، اضافة الى الأردن، نخبة من الفنانين العرب من سوريا ولبنان وقطر وتونس، وفي مقدمتهم عابد الفهد الذي أدى دور الحجاج باقتدار كبير. ولقد أسهمت الإمكانات الانتاجية التي وفرها تلفزيون قطر، والبالغة زهاء ثلاثة ملايين دولار بأن يبرز المخرج محمد عزيزية إمكاناته وقدراته الفنية بتقديم عمل تاريخي كبير وبتحريك مجاميع هائلة تتحرك في أماكن مماثلة للأماكن التي دارت عليها الوقائع التاريخية، وفي هذا الإطار، ومن أجل توفير كل مقومات النجاح للعمل، تم بناء ديكورات ضخمة تشابه تاريخياً مدن مكة والكوفة والبصرة، كما جرت الاستعانة بفريق مكياج سينمائي من ايران، وقد شارك في المسلسل حوالي 90 فناناً عربياً، منهم غسان مسعود (ابن الزبير) وجهاد سعد وسلمى المصري، ومن الاردن الفنان نبيل مشيني والفنانة نادرة عمران التي أدت دور أسماء بنت أبي بكر (والدة عبد الله ابن الزبير).. فكان أن شاهدنا واحدا من أكثر الأعمال التاريخية ضخامة وإتقاناً لينقل لنا صورة مجسمة عن قسوة الحجاج وطغيانه الدموي وعن هول الأحداث والفتن والصراعات العنيفة التي عصفت بالمنطقة العربية في ذلك الزمن.
لقد جاء مسلسل الحجاج بعد سلسلة من الاعمال التاريخية المتتابعة خلال السنوات الماضية، كالناصر صلاح الدين والبحث عن صلاح الدين وفارس بني مروان والموت القادم من الشرق وعمرو بن العاص (رجل الأقدار) وذي قار والطارق وزمان الوصل وعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد وصقر قريش والمتنبي وربيع قرطبة.. الخ.. وحتى بعد الفانتازيات التاريخية الضخمة كالفوارس والكواسر والجوارح وغضب الصحراء، أو التراثية كالمهلهل وشهرزاد وتغريبة بني هلال.. مما وضع المخرج عزيزية، كما قال، أمام تحد كبير.. فكان لا بد من انعطافة كبيرة وهامة ونوعية في مسار الاعمال الدرامية التاريخية، ولذلك جاء اختيار شخصية مثل الحجاج وانتاج عمل درامي عنه وعن الحقبة التاريخية التي يمثلها لتحقيق انعطافة في مسار الاعمال التاريخية. «إن اختيار هذا العمل في وقتنا الحالي يكمن في ان الحجاج بن يوسف الثقفي كشخصية تاريخية يشكل استفزازاً لكل ما احاط به من اشخاص وما دار حوله من احداث، وانه رغم تباعد الزمن بين الحجاج وحاضرنا العربي الا انه ما زال ماثلاً في الاذهان العربية وان كان مثوله يكتنفه الكثير من الغموض»، وبين عزيزية «ان استحضار شخصية كالحجاج يتلاقى مع الموروث الغامض منها ويوقظه في الذاكرة العربية بدلالاته الكثيرة».
ولقد سبق لمحمد عزيزية أن جمع خبرة واسعة في أعمال ذات طابع تاريخي أو تعتمد على تحريك المجاميع كما في «الفوارس' و'البحر ايوب' و'البركان».
ولعل هذه الخبرات المباشرة، هي التي أسهمت بنجاح مسلسل الحجاج، الأمر الذي شجع عزيزية، كما يبدو، لمباشرة إخراج مسلسل تاريخي جديد هو(الظاهر بيبرس) والمسلسل للكاتب غسان زكريا. وهذا هو التحدي الجديد.. ذلك أن شخصية الظاهر بيبرس قد حولها المخيال الشعبي إلى شخصية أسطورية فهل سنشاهد بيبرس التاريخي أم البطل الاسطوري؟
هذه اشكالية من نوع آخر، وسنرى كيف سيقوم عزيزية بالتعامل معها درامياً!
nazihabunidal@hotmail.com
المسلسل الأردني «الحجاج»..أين ينتهي الماضي وأين يبدأ الحاضر؟ -بقلم : نزيه أبو نضال
12:00 18-7-2005
آخر تعديل :
الاثنين